إعلان علوي

العقبات التي تواجه إستخدام الطرق العلمية في اثباث النسب - القانون الجزائري


العقبات التي تواجه إستخدام الطرق العلمية

رغم الدور الذي تلعبه الطرق العلمية في مجال إثبات النسب في القانون الجزائري أو نفيه إلاّ أن هناك صعوبات تعرقل العمل بها سواء كانت عوائق مادية أو عقبات  يحتجّ بها الخصم من أجل محاولة الإفلات من الخضوع لفحص الدم، الأمر الذي يحتم ضرورة التغلب على هذه الصعوبات حتى لا يضيع الولد و الشرف و هذا ما سأعالجه فيما يلي:

     اولا: الصعوبات المادية
إن أهم ما يقف عائق أمام الأخذ بطرق التحليل البيولوجي في العالم العربي عموما و في الجزائر خصوصا هو العائق المادي، إذ يتطلب الأمر تجهيز مخابر خاصة على مستوى جيّد بأحدث التجهيزات و هذا يحتاج إلى إمكانيات ضخمة بالإعتماد من جهة على مخابر عالية الجودة و من جهة أخرى على خبراء و أخصائيين. و في الجزائر فإن مخبر ADN الذي تم تدشينه بتاريخ: 22/07/2004 يعدّ أول خطوة لتشجيع العمل بالبصمة الوراثية و هو يساهم بدور فعّال في المجال الجنائي و يفترض أن يكون له دورا أيضا في مسائل إثبات النسب أو نفيه، إلاّ أن إعتماد بلادنا على مخبر وحيد و موجود بالجزائر العاصمة لا يكفي لتغطية التحاليل الجينية على المستوى الوطني و هذا يؤدّي إلى تعطل إجراءات سير الدعاوى، كما يتطلب بالمقابل مصاريف باهظة.

ثانيا: الصعوبات القانونية في القانون الجزائري

من الصعوبات القانونية التي يمكن أن يتمسك بها الخصم للتهرب من الإختبارات الوراثية أن يتمسك بمخالفة هذه التحاليل لأحكام الشريعة الإسلامية أو بأنّ الخضوع لهذا الفحص يتعارض مع حرمة الحياة الخاصة و قاعدة عدم إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه و هو ما سأشرحه في النقاط الآتية:

أولا: مدى إتّفاق الأخذ بالطرق العلمية مع مبادئ الشريعة الإسلامية

كثيرا ما تواجه عملية فحص الدم عائق كبير أسست عليه الشريعة الإسلامية أغلب أحكام النسب و لم تزعزعه أو تهدر قيمته إلاّ بما هو أقوى منه و هو اللّعان و هذا العائق هو الفراش و الذي لا تستطيع البصمة الوراثية إقتلاعه لأنه ثابت بالكتاب و السنة لقوله صلى الله عليه و سلم: "الولد للفراش"إضافة للّعان الذي جعلته الشريعة الإسلامية الطريق الوحيد لنفي النسب و بالتالي فإنّ هناك من يتمسّك باللّعان لنفي النسب و يرفض الخضوع لفحص الدم لعدم النص عليه شرعا، و من جهة أخرى هناك من يحتجّ بأن تحاليل الدم و خصوصا البصمة الوراثية لم يرد بشأنها حكم عن الشارع الحكيم و تجاهلوا قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبيّن أنّه الحق ..."[فصّلت الآية 53]. و بذلك فهي تعتبر في حكم المنصوص عليها.

و يرى جمهور الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة و ليس التحريم، لأن تحريم ما لم يرد بشأنه نص لمجرد أنه مسكوت عنه يعتبر من باب التكليف بدون بيان و هو تكليف بما لا يطاق، و إسقاطا على العمل بالقافة في إثبات النسب بناءا على العلامات الظاهرة التي يعرفها القائف كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه و سلم- ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال "ألم تري أن مجزّزا المدلجي نظر آنفا إلى زيد إبن الحارث و أسامة بن زيد و عليها قطيفة قد غطّيا رؤوسهما  و بدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض ..."[رواه البخاري]، و بالتالي فإن سرور نبيّ الله عليه السلام دال على إقراره بالقيافة، فما بالك اليوم  بخبرة طبّية يقينيّة.

ثانيا: فحص الدم و مدى إجبار الخصم على تقديم دليل ضدّ نفسه   

لما كانت المبادئ العامة في الإثبات تذهب إلى أنه لا يجوز إجبار الخصم على تقديم دليل ضدّ نفسه لأن الخصم المكلف بالإثبات هو الذي يجب عليه تقديم المستندات التي تؤيّد صحّة إدّعائه و له ليس أن يطرح عن نفسه عبء الإثبات و يلقيه على خصمه. فهل يجوز إلزام الشخص بتقديم عيّنة من دمه أو خصلة من شعره أو عيّنة من سائله المنوي لإجراء فحوص طبية من أجل إثبات النسب أو نفيه؟ و للإجابة  على ذلك و قياسا على قانـون الإجراءات الجزائية الذي يسمح للضّبطية القضائية أو وكيل الجمهورية تفتيش المتهم أو  منزله  إذا كـان

لذلك  فائدة في إظهار الحقيقة التي يسعى التشريع إلى تحقيقها  و نفس الغاية التي يسعى المشرّع إليها من خلال إجازته اللجوء للطرق العلمية في مجال إثبات النسب.

ثالثا: فحص الدم و مدى جواز المساس بمبدأ معصومية الجسد

لقد عبّرت الجماعة الدولية ممثلة في الأمم المتحدة و مؤتمراتها عن قلقها إزاء المنجزات العلمية و التقنية الحديثة التي تولّد مشاكل إجتماعية و تعرّض للخطر الحقوق المدنية و السياسية للفرد و الجماعة و تتجاوز إعتبارات تتعلق بالكرامة الإنسانيةو قد أوصت الأمم المتحدة على إتخاذ تدابير فعّالة منها التشريعية لكفالة إستخدام التقدّم العلمي و التكنولوجي في تأكيد حقوق الإنسان و حريّاته، و على ذلك فإن إلزام شخص بالخضوع للتحليل البيولوجي لإثبات النسب أو نفيه يعدّ مساس بحق الإنسان في الحفاظ على أسراره و خصوصياته كما أنه يعتبر تدخلا و مساسا بسلامته الجسدية، و على المستوى المحلّي فإن الحق في السلامة الجسدية مبدأ مضمون دستوريا.

و بإنزال ما تقدّم على موضوعنا نجد أن هناك تنازع بين حقّين أوّلهما هو حق المجتمع في الوصول إلى الحقيقة و الثاني هو حق الإنسان في صيانة أسرار حياته الخاصة لأن الفحوصات الجينية تفتح المجال للبحث عن الخصائص الوراثية و بالتالي الكشف عن معلومات ذات طابع شخصي (الكشف عن الشخصية، الطبع، الإستعداد الإجرامي، الأمراض الوراثية كمعرفة إكتشاف وجود الجين المسبب أحد الأمراض التي لا تظهر إلا بعد سن معيّنة مثل الجين المسبب لمرض هانتجون الذي لا تظهر أعراضه إلاّ بعد بلوغ المريض سن الأربعين– و هو مرض عصبي يصيب الدماغ و له نتائج وخيمة تؤدي إلى الموت خلال فترة خمس إلى عشر سنوات) و بالموازنة بين الحقين السابقين نجد أن الأول أولى بالرعاية لكونه حق عام يهمّ المجتمع بأسره ذلك أن ثبوت  النسب  تتعلق به حقـوق مشتركة بين الله تعالى و بين الأب و الإبن و الأم و المجتمع ككل، كما أن هذا الإشكال يحدث فقط في حالة رفض الشخص الخضوع للفحص بغيّة الحصول على العيّنة، أما عندما يتعلق الأمر برضاء  الشخص و قبولـــه للفحص فإنّ قبوله الإختياري يحسم الإشكال. و يدخل ذلك في نطاق الحقوق التي يجوز للشخص التنازل عنها كما أن التشريعات المقارنة التي تسمح بجمع بيانات البصمة الوراثية رغم أنها تشكل ضررا بالحياة الخاصة، قــد سمحت بذلك في نطاق محدود جدا مع ضرورة إحاطة المعلومات المتحصلة من فحص البصمة الوراثية  بقدر كبير جدا من السرية حيث يعاقب كل من يفشي أسرار البصمة الوراثية وفقا للنصوص العقابية، و حبذا لو ساير المشرّع الجزائري هذا الإتجاه.
و بناءا على ما تقدم يباح المساس بالحق في الخصوصية رغم كونه من حقوق الإنسان اللّصيقة بشخصه و التي تتعلق بكرامته و هذا المساس لغايات أسمى يسعى إليها المشرّع رغم ما يلحق ذلك من ضرر بالحياة الخاصـة.

و رغم كل هذه الصعوبات و العوائق التي تقف أمام التحاليل البيولوجية إلاّ أنه لا يمكن إستبعاد اللجوء إلى الخبرة الطبية خصوصا بعد أن نصّ المشرّع عليها صراحة في قانون الأسرة، و بالتالي فمتى رأت المحكمة أن هناك ضرورة ما لخدمة العدالة بإجراء هذه التحاليل فلن تتأخر في الإستعانة بالخبرة الجينية.
 
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات