تأسيس نفاذ الحق الشخصي في القانون الجزائري
تأسيس نفاذ الحق الشخصي
نظرا لرفض فكرة نفاذ الحق الشخصي لمدة طويلة من الزمن إذ لم يكن يعترف به إلا باعتباره استثناء من مبدأ نسبية العقد أو على أساس التعسف في استعمال الحق أو عدم مشروعية السبب.
يذهب البعض إلى أن نفاذ الحق الشخصي هو استثناء من مبدأ نسبية العقد الذي يقضي أنه لا يمكن الغير أن يكسب حقا أو يتحمل بالتزام من عقد لم يبرمه، إلا في حالة الاشتراط لمصلحة الغير .
فإذا كان هذا العقد نافذا في مواجهة الغير بحيث لا يستطيع تجاهله فهو استثناء عن المبدأ بل لا يصبح لهذا المبدأ أي معنى إذا قلنا بنفاذ العقد أو على الأقل فقط لن تصبح له إلا فعالية محدودة بظهور نفاذ العقد .إذاً كيف يمكن القول أن الحق الشخصي حق نسبي و في نفس الوقت نافذ في مواجهة الغير ؟
وبادئ ذي بدء استعمل العقد كوسيلة إثبات في مواجهة الغير وخاصة العقد الرسمي، وكان يستدل بالعقد في هذه الحالة كواقعة لأنه لا يستند إلى العقد لإلزام الغير بالآثار القانونية المترتبة عنه كتصرف قانوني ، بل يستند إليه كواقعة لها دليل على وجودها في العقد ذاته ، وقد قيل في تبرير هذا أنه ليس هناك نفاذ للعقد عندما يستعمل العقد كمجرد واقعة تفيد الإثبات ، ثم تطور الأمر وأصبح يستند إلى العقد ـ في الإثراء بلا سبب لتبرير أن الإثراء لم يكن بغير سبب بل أساسه عقد كان بين المفتقر والغير ورغم ذلك اعتبر نافذ في مواجهته لأن المدعى عليه استطاع التمسك به، كرجوع من قام بالإصلاحات في العين المؤجرة – بطلب من المستأجر – على المؤجر بقواعد الإثراء بلا سبب واستطاع هذا الأخير الدفع بأن عقد الإيجار يلزم المستأجر بالقيام بالترميمات التأجيرية ،ويعتبر هذا العقد نافذا في مواجهة الغير .
وقد تعددت الأمثلة واصبح الغير مسؤولا إذا اشترك مع أحد المتعاقدين في الإخلال بالتزامه العقدي.
فذهب البعض إلى القول بأنه عندما يرتكب الشخص خطأ ويسأل تقصيريا نتيجة مشاركته في إخلال أحد المتعاقدين بالتزاماته العقدية فمسؤولية الغير يكون أساسها إلزام هذا الغير بالتزام سلبي وهو عدم عرقلة تنفيذ الالتزام .
وهذا يعني أن العقد أصبح ملزم بالنسبة له فهو استثناء من مبدأ نسبية العقد لكن هذا القول غير مقبول لأن الغير لا يسأل مسؤولية عقدية بل يسأل تقصيريا على أساس الخطأ المرتكب وليس على أساس العقد ، فالخطأ أساسه العلاقة بين الغير والدائن .
فمبدأ نسبية العقد يجب ألا يعرقل مبدأ أساسي تقوم عليه المسؤولية التقصيرية وهو من ارتكب خطأ وألحق ضررا بالغير وجب عليه التعويض.
لهذا فمسؤولية الغير تفترض إثبات خطئه ولا يكفي إثبات إخلال المتعاقد بالتزامه وإلحاق ضرر بالمتعاقد معه .
فلا يختلط نفاذ العقد مع إلزامية العقد عندما يستند الغير على إخلال المتعاقد بالتزاماته لإثبات الخطأ التقصيري ، لكن عندما يرجع الغير بالمسؤولية العقدية فهناك فعلا استثناء من مبدأ نسبية العقد الذي يرفض القضاء الفرنسي – رغم تطوره في هذا المجال – الأخذ به لإقراره بأنه لا يمكن فعلا الاستناد إلى العقد لإلزام المتعاقد تجاه الغير ، ولا يمكن الغير الرجوع إلا بقواعد المسؤولية التقصيرية.وأتعرض لمختلف المحاولات في تأسيس نفاذ الحق الشخصي سواء كان ذلك على فكرة التعسف في استعمال الحق ( أولا ) أو الدعوى البولصية (ثانيا ) أو مخالفة القواعد الأخلاقية ( ثالثا ).
أولا:تأسيس نفاذ الحق الشخصي على التعسف في استعمال الحق
إن الشخص الذي يشارك المتعاقد في جعله يخل بالتزامه التعاقدي يكون قد قصد الإضرار بالغير ( الدائن ) وذلك وإن كان العقد غير ملزم له ولكن عندما يتعاقد قصد الإضرار يكون متعسفا .
و قصد الإضرار بالغير قد لا يتحقق إذ قد يكون هدف الشخص من العقد هو الفائدة التي تعود عليه من العقد دون قصد الإضرار .
فقد يكون أيضا الدافع مشروعا إذ هو لا يهدف إلى جعل المتعاقد ( المدين بالالتزام) يخل بالتزامه فالذي يتعاقد مع عامل له مهارات تقنية معينة وكان هذا الأخير ملزم بعقد سابق يمنعه من العمل في مكان آخر قد يكون هدفه-وهو الغالب –الاستفادة من مهارات هذا العامل لذا فلا يكون سبب العقد غير مشروع.
فلا يمكن الاستناد إلى نظرية التعسف في استعمال الحق لتبرير نفاذ العقد وذلك سواء بالنظر إلى قصد الإضرار أو الغاية الغير المشروعة إذ قد يتحقق نفاذ العقد بالنظر إلى الضرر الذي يصيب الغير وعلم الغير بالعقد السابق دون الاعتداد بالقصد أو الغاية منه لأنه لو عملنا بهذا لأدى ذلك إلى تقليص مجال إعمال نفاذ العقد.
ثانيا :تأسيس نفاذ الحق الشخصي على الدعوى البولصية:
إن الغش( وهو قصد الإضرار بحقوق الدائن ) شرط من شروط الدعوى البولصية فإذا كان التصرف معاوضة فيجب أن يكون منطويا على غش من المدين , و أن يكون من صدر له التصرف على علم بهذا الغش أي يكون متواطئا مع المدين ، وقد اعتبر الغش قائم متى صدر التصرف من المدين وهو عالم بأنه معسر إذ تنص المادة 192 / 1. 2 مدني على ما يلي :(( إذا كان تصرف المدين بعوض ، فإنه لا يكون حجة على الدائن إذا كان هناك غش صدر من المدين ، و إذا كان الطرف الآخر قد علم بذلك الغش يكفي لاعتبار التصرف منطويا على الغش أن يكون قد صدر من المدين وهو عالم بعسره.
كما يعتبر من صدر له التصرف عالما بغش المدين إذا كان قد علم أن هذا المدين في حالة عسر)).
كما اعتبر الغش متوافر من جانب المتصرف له إذا ثبت علمه بإعسار المدين .
ولا شك أن الغير الذي شارك في جعل المتعاقد يخل بالتزامه وترتبت عليه مسؤولية تقصيرية وذلك لعلمه بوجود العقد ونفاذ هذا الأخير في مواجهته قد يكون غير عالم بإعسار المدين إلى جانب أن الدعوى البولصية تعتمد على إعسار المدين وليس فقط على إخلاله بالتزامه وفي هذا الصدد تنص المادة 191 مدني على ما يلي : ((لكل دائن حل دينه ، وصدر من مدينه تصرف ضار به أن يطلب عدم نفاذ هذا التصرف في حقه ، إذا كان التصرف قد أنقص من حقوق المدين أو زاد في التزاماته وترتب عسر المدين أو الزيادة في عسره ، وذلك متى توافر أحد الشروط المنصوص عليها في المادة التالية.)) .
فالقصد من هذه المادة هو حماية الضمان العام عندما يكون هناك افتقار متعمد من المدين ونظرا لأن جميع عقود المدين نافذة في مواجهة الدائن فقد تقررت له هذه الحماية وهي عدم نفاذ هذه العقود في مواجهته في حالة الغش وبالتالي لا يمكن تأسيس نفاذ العقد المولد للحق الشخصي على أساس الدعوى البولصية إلا إذا توافر شرط إعسار المدين أو الزيادة في إعساره وهو شرط غير متعلق بنفاذ العقد في مواجهة الغير إذ تقوم المسؤولية التقصيرية للغير دون الاعتداد بإعسار المدين.
وقد تطور الفقه والقضاء في فرنسا بحيث أصبح لا يتطلب إعسار المدين كشرط للدعوى البولصية عندما يكون الأمر متعلق بشيء موعود به لشخص آخر فالضرر يتحقق بمجرد التصرف في الشيء ولا يهم إن كان المدين معسرا أو غير معسر.
ولكن فبالرغم من هذا فإنه لا يمكن تأسيس نفاذ الحق الشخصي على أساس الدعوى البولصية إذ يتطلب رفع هذه الدعوى غش من المدين الأصلي في التصرفات بعوض.
وهناك حالات لا يرتكب فيها المدين أي خطأ كما في حالة بيعه للشيء وفقا للثمن المحدد ( إذا حدد في العقد ثمن لا يمكن تجاوزه ) أو إذا تم اشتراط عدم تصدير شيء إلى الخارج .
فإذا باع المتعاقد الشيء بنفس الشروط المتفق عليها مع المتعاقد معه لكن للغير مع العلم بوجود ثمن محدد أو شرط يمنع التصدير وقام بمخالفة ذلك في هذه الحالة لا يكون المتعاقد قد ارتكب غشا ويكون العقد نافذ في مواجهة الغير ولا يمكن تأسيس رجوع المتعاقد على الغير على الدعوى البولصية.
ثالثا:تأسيس نفاذ الحق الشخصي على مخالفة القواعد الأخلاقية:
يعد الشخص مخالفا لقواعد أخلاقية إذا كان يهدف من إبرام العقد الإضرار بالغير أو كان قصده هو تحقيق فائدة شخصية متجاهلا حقوق الغير، فلا يمكن الاستناد إلى ذلك لعدم دقة القاعدة الأخلاقية .
إلى جانب أنه إذا كان صحيحا أن الأخلاق تقضي بعدم تجاهل حقوق الغير فلا يمكن أن ترقى إلى مبدأ قانوني إذ يعني هذا محو كل تفرقة بين الآداب العامة والأخلاق .
وارتقاء قاعدة أخلاقية محضة وهي عدم ابتغاء الفائدة الشخصية أكثر من ابتغاء فائدة الغير إلى آداب عامة التي هي الحد الأدنى من الأخلاق التي تحفظ للمجتمع توازنه أمر صعب تحقيقه فهي أفكار مثالية إذ ما هو جاري به العمل اليوم ليس بالضرورة ما يجب العمل به غدا.
وهذا هو الواقع وبالتالي لا يمكن تأسيس نفاذ العقد على قاعدة أخلاقية هي ذاتها لم ترقى إلى آداب عامة وحتى لو تقبلنا هذه الفكرة فإنها ستختلف من حيث الآثار عن نفاذ العقد ، إذ مخالفة الآداب العامة يترتب عنها البطلان بينما من نتائج نفاذ العقد الإبقاء عليه صحيحا ولكنه لا يكون نافذا في مواجهة الغير.
ويمكن القول أن نفاذ الحق الشخصي هو من المبادئ القائمة بحد ذاتها بصفة مستقلة يفرضها الواقع والمنطق القانوني للمحافظة على مراكز قانونية قائمة ،إذ ما الفائدة من عقود وحقوق يمكن الغير تجاهلها.
أضف تعليق