رجوع الغير بقواعد المسؤولية في القانون الجزائري
رجوع الغير بقواعد المسؤولية
لا يمكن الغير المطالبة بتنفيذ التزام عقدي ولكن هل يمكنه الرجوع بقواعد المسؤولية في حالة ما إذا لحقه ضررا نتيجة إخلال المتعاقد بالتزامه؟
إن المسؤولية العقدية تقتضي توافر شرطين هما الإخلال بالتزام ووجود عقد يربط المدين والدائن وبالتالي مركز الغير يمنعه من المطالبة بقواعد المسؤولية العقدية.
ولكن الضرر الذي يصيب الغير تزايد نتيجة إخلال المتعاقد بالتزامه العقدي بتطور عملية الإنتاج والتوزيع وتشابك العلاقات القانونية فالخلل أو العيب الموجود في البضاعة يمكن أن يصيب المتعاقد والخلف الخاص والغير، وكذلك الحال بالنسبة للعيب في البناء الذي يلحق الضرر بالمتعاقد( رب العمل ) والمشتري (الخلف الخاص) والغير، فإذا قام المتعاقد بتنفيذ التزامه بشكل معيب و ألحق ضررا بالغير فهل يمكن للغير الاستناد إلى قواعد النفاذ للرجوع على المتعاقد( المدين) بالمسؤولية عن الأضرار التي أصبته نتيجة إخلاله بالتزاماته العقدية ؟ وهل يعتبر ذلك تطبيقا لقواعد النفاذ أم استثناء من مبدأ نسبية العقد وهل يختلف الرجوع بالمسؤولية التقصيرية عن الرجوع بالمسؤولية العقدية؟
سأتعرض للخطأ التقصيري المستقل عن الخطأ العقدي( أولا ) ثم للخطأ التقصيري الغير ممكن فصله عن الخطأ العقدي (ثانيا) لأبين ما إذا كان ذلك تطبيقا لقواعد النفاذ أم استثناء من مبدأ نسبية العقد.
أولا :الخطأ التقصيري المستقل عن الخطأ العقدي:
إن رجوع الغير المتضرر من إخلال المتعاقد بالتزامه العقدي على المدين وفقا لقواعد المسؤولية التقصيرية يستلزم إثبات الخطأ التقصيري الذي يمكن لأي شخص مضرورا الاستناد عليه ،فلا يمكن للغير المضرور الرجوع مثلا على الميكانيكي الذي وضع في السيارة زجاج مخالف للمواصفات التي طلبها منه صاحب السيارة، فترتب عن تفتت الزجاج إصابة هذا الغير بضرر ولكن نوعية الزجاج التي وضعها الميكانيكي نوعية معتمدة وأكثر من 90% من السيارات مجهزة بها وبالتالي لم يتوافر إهمال من طرف الميكانيكي فلا يمكن إقامة مسؤوليته التقصيرية بل العقدية فقط .
بينما يستطيع زائر المستأجر مثلا الرجوع على المؤجر نتيجة إهماله بالقيام بأعمال الصيانة إذا لحق هذا الغير ضرر لكون الإهمال يشكل خطأ تقصيري إلى جانب كون المؤجر قد أخل بالتزامه بالصيانة .
كما يمكن للغير الرجوع على المهندس الذي ارتكب خطأ في التصميم أو أهمل الإشراف على مراقبة تنفيذ العمل مما ألحق ضررا بالغير لأن هذا يشكل خطأ تقصيريا بينما لا يمكن الرجوع على المهندس في حالة عدم مراعاة هذا الأخير المواصفات المحددة بالصفقة فهذا لا يعتبر خطأ تقصيري إذا لم يكن قد أثر على سلامة المبنى ولكنه إخلال بالتزام عقدي محض يسمح لرب العمل من الرجوع بالمسؤولية العقدية ، ومن التطبيقات القانونية لرجوع الغير على المدين رجوع الغير بالضرر الشخصي للمطالبة بالتعويض عن الضرر المادي أو الأدبي الذي لحقهم تبعا للضرر الذي أصاب المضرور الأصلي
فيسأل المدين بمقتضى المسؤولية التقصيرية ولو كان يربطه عقد مع المتضرر الأصلي .
فيشترط إذن لرجوع الغير على المدين المخل بالتزامه أن يكون هذا الخطأ العقدي يشكل أيضا خطأ تقصيري وهو انحراف عن السلوك المألوف أو عن واجب عام وليس إخلال بالتزام عقدي محض وإلا أصبحنا أمام استثناء من مبدأ نسبية العقد إذ في هذه الحالة نكون قد استعملنا مبدأ النفاذ ذريعة لمطالبة الغير للمدين بالتزام عقدي،.
فإذا كان دفتر الشروط في إطار الملكية المشتركة يقضي بعدم بناء العمارات بل "فيلات" فقط ، وخالف أحد الشركاء دفتر الشروط وترتب على تلك المخالفة ضررا للجيران الأجانب عن الملكية المشتركة، فهل يكون بإمكانهم الرجوع بالمسؤولية التقصيرية على أساس إخلال الشريك بالالتزام الوارد في دفتر الشروط.؟
لقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى القول بهدم البناية على أساس خطأ الشريك التقصيري لأنه خالف قواعد العمران وذلك دون أي تحديد لمضمون هذه القواعد .
ويمكن أن نستخلص من هذا أن مخالفة الالتزام الوارد في دفتر الشروط لا يشكل خطأ تقصيريا في حد ذاته ولكن مخالفة قانون التعمير تعني مخالفة مصالح عامة أو واجب عام ويمكن الغير المطالبة وفقا لذلك بالتعويض على أساس تقصيري .
ثانيا : ارتباط الخطأ التقصيري بالخطأ العقدي
ذهب القضاء الفرنسي إلى توسيع رجوع الغير بالمسؤولية التقصيرية في
حالة إخلال المتعاقد بالتزامه العقدي وذلك كلما ألحق هذا ضررا بالغير ودون
اشتراط استقلالية الخطأ التقصيري عن الخطأ العقدي .
وقد تعرض في هذا الموقف لانتقاد شديد لأنه يؤدي إلى اضطراب في التوقعات العقدية التي تضمنها العقد، فالمتعاقد يضع مسبقا الشروط المحددة للمسؤولية ولا يمكنه الاحتجاج بها على الغير الذي يرجع عليه بقواعد المسؤولية التقصيرية .
فإذا كان الضرر الذي لحق الغير ترتب عن إخلال المتعاقد بالتزام تعاقدي محض فالمسؤولية العقدية هي التي يجب أن تطبق، فلا يجوز منح الغير مركز أحسن من المتعاقد نفسه أي الدائن بالالتزام الذي يتم تنفيذه .
ونظرا لموضوعية هذه الانتقادات وقع تردد في القضاء حول تطبيق المسؤولية العقدية أم التقصيرية وقد تم إقرار القضاء الفرنسي لرجوع الخلف الخاص بدعوى الضمان على المتصرف الأول(بائع البائع) على أساس عقدي رغم أن الخلف الخاص يعد من الغير ولكن اعتبر ذلك من ملحقات الحق الذي انتقل إليه وهذا يعني استثناء من مبدأ نسبية العقد .
وتذهب غالبية التشريعات إلى اعتبار دعوى الضمان من ملحقات الشيء المبيع تنتقل معه إلى الخلف الخاص فلا يمكنه الرجوع إلا بقواعد المسؤولية العقدية وهذا ما ذهب إليه مشرعنا أيضا.
لكن هل يمكن رجوع الغير في مجموعة العقود سواء الناقلة لملكية شيء أو غير الناقلة للملكية بالمسؤولية العقدية؟
لقد تردد القضاء الفرنسي بصدد العقود الفرعية فرجوع رب العمل على المقاول الفرعي على أساس المسؤولية العقدية، فإن كانت الغرفة المدنية الأولى
لمحكمة النقض الفرنسية قد أقرته ورجحت التوقعات العقدية التي التزم بمقتضاها المدين ، فالغرفة المدنية الثالثة فقد رفضت ذلك استنادا إلى أن رب العمل من الغير ولا يمكنه الرجوع بقواعد المسؤولية العقدية وقد ظل التردد قائما في إطار هذه الغرفة بين إقرار المسؤولية العقدية من عدمه .
وهذا ما أدى إلى اجتماع الغرف plénière بتاريخ 12/06/1991 والتي استبعدت رجوع الغير في العقود الفرعية بقواعد المسؤولية العقدية .
وهذا التطور يعني الإبقاء على مبدأ نسبية العقد وكذلك تحديد مركز الغير في مجموعة العقود باعتباره أجنبيا عن العقد ، فلا يمكن الاستناد إلى مبدأ النفاذ لإلزام الغير بالتزام عقدي .
ولكن ألا يعني - القول برجوع رب العمل على المقاول الفرعي بالمسؤولية التقصيرية دون أن يشكل ذلك الخطأ العقدي خطأ تقصيريا مستقلا - مجرد حجب لحقيقة؟ فهل يمكن رجوع رب العمل على المقاول الفرعي لمجرد أنه لم يقم بتغليف البلاط بصفة جيدة أو لم يراعي المواصفات المشروطة في عقد المقاولة الفرعية؟
فالأمر هنا يتعلق بإخلال بالتزام عقدي محض ولا تتوافر فيه شروط الخطأ التقصيري، فالمفروض استبعاد رجوع الغير على المدين في هذه الحالة سواء بالمسؤولية العقدية أو التقصيرية إذا كان الخطأ العقدي لا يشكل خطأ تقصيريا .
فرجوع الغير بالمسؤولية التقصيرية عن الضرر الذي ترتب نتيجة إخلال بالتزام عقدي دون أن تتوفر فيه شروط الخطأ التقصيري يؤدي إلى عدم احترام العقد والتوقعات العقدية وهذا يخالف مبدأ نفاذ العقد إذ يعطي للعقد فعالية أكثر مما يقتضيه النفاذ، فهو يجعل المتعاقد ملزم في مواجهة الغير، فنفاذ العقد لا يجب أن يستعمل كحجة لإلزام المتعاقد في مواجهة الغير، كما لا يمكن أن يكون أساس إلزام الغير في مواجهة المتعاقد
ففي التوزيع الاستئثاري مثلا لا يمكن جعل الغير ملزم بالتزام سلبي بعدم المنافسة بمجرد علمه بالعقد فنفاذ العقد يجب ألا يستعمل وسيلة لحجب استثناء فعلي على مبدأ نسبية العقد وسأتعرض له في الباب الثاني بصدد نفاذ الحق الشخصي .
فيجب أن يكون الغير في حالة الخطأ العقدي المحض محروم أيضا من الرجوع بالمسؤولية العقدية وفقا لمبدأ نسبية العقد وأيضا لا يمكنه الرجوع بقواعد المسؤولية التقصيرية وذلك لأن قواعد النفاذ تحول دون إلزام المتعاقد بالتزام عقدي في مواجهة الغير ولكن العدالة تقتضي السماح للغير في إطار مجموعة العقود بالرجوع بالمسؤولية العقدية بالاستناد إلى الخطأ العقدي ولكن بمراعاة أيضا مصالح وتوقعات المتعاقد، فلا يمكن الرجوع إلا في حدود الشروط التي وضعها المدين مع المتعاقد معه المباشر فيجب من جهة إقرار حق الغير في التعويض ومن جهة أخرى مراعاة وحماية المتعاقد المخل بالتزامه .
ويبقى هذا الحل الوحيد المقبول للتوفيق بين مصلحة الغير المتضرر من جراء الإخلال بالتزام عقدي محض من جهة ومصلحة المتعاقد في الأخذ بعين الاعتبار التوقعات العقدية، ولا يمكّن الرجوع بواسطة المسؤولية التقصيرية الوصول إلى هذه النتائج. ويجب أيضا الأخذ بعين الاعتبار أن الدائن في مجموعة العقود يلتزم بحدود عقده وبالتالي لا يستطيع الحصول على تعويض أكثر مما كان سيتحصل عليه لو رجع على المتعاقد معه المباشر مما يتطلب الاحتجاج عليه بالشروط المتضمنة في العقدين(عقده مع المتعاقد معه المباشر والعقد الثاني أو الفرعي).
ويرى البعض أن هذا النظام من الصعب تحقيقه لأنه يعتبر أيضا إلحاق ضرر بالغير إذا تم الاحتجاج عليه بالشروط المحددة أو المعفية من المسؤولية لهذا يذهب البعض إلى إقرار الأخذ بنظام تعويض مستقل عن النظام العام للمسؤولية المدنية ويلاحظ أن القضاء الفرنسي مازال متردد في اعتبار أن الخطأ العقدي يشكل أيضا خطأ تقصيري فلا يشترط الاستقلالية وذلك لإعطاء الغير إمكانية التعويض عن الضرر الذي يلحقه نتيجة الإخلال بالتزام عقدي محض وهذا الاعتبار تقتضيه العدالة فعلا ولكن يتعارض مع قواعد المسؤولية العقدية ولا يمكن أن نصل إلى تبرير هذا إلا عن طريق تجاوز هذه المفاهيم ووضع استثناء على مبدأ نسبية العقد، ولا يمكن أن يكون ذلك في إطار مضمون النفاذ وإلا أصبحت المبادئ القانونية قابلة للتحوير فتصبح بدون قيمة، فالمنطق القانوني يسمح بوضع استثناء على مبدأ قائم وفقا لتطور العلاقات أو الأوضاع القانونية ولكن دون تحوير المبادئ القائمة إذ هذا يؤدي إلى القضاء عليها.
أخلص إلى أن الغير لا يمكنه الرجوع على المتعاقد المخل بالتزامه إلا بقواعد المسؤولية التقصيرية ويشترط لذلك أيضا أن يكون الخطأ العقدي ذاته تتوافر فيه شروط الخطأ التقصيري أما إذا كنا أمام خطأ عقدي محض، فالرجوع بالمسؤولية التقصيرية لا يمكن تبريره على أساس النفاذ بل على أساس الحق في التعويض المقرر لأي شخص مضرور ووضع نظام مستقل للمسؤولية.
كما يمكن الرجوع بقواعد المسؤولية العقدية لأن الأمر متعلق بالإخلال بالتزام عقدي يجب مراعاة التوقعات العقدية وهنا نكون حتما أمام استثناء من مبدأ نسبية العقد مما يجعل البعض يرى فيه توسيع أطراف العقد إذ العلاقة الاقتصادية أصبحت تحكم مجموعة العقود وتتطلب إعادة النظر في التقسيم التقليدي للطرف فيعتبر رجوع الغير وفقا لهذا الرأي تطبيقا لمبدأ نسبية العقد.
وسواء اعتبرنا رجوع الغير بالمسؤولية العقدية تطبيقا لقواعد المسؤولية العقدية أو استثناء منها ففي جميع الأحوال ليس تطبيقا لقواعد النفاذ، فالمضمون الصحيح للنفاذ هو رجوع الغير على التعاقد المخل بالتزامه العقدي بقواعد المسؤولية التقصيرية متى توافرت في الخطأ العقدي شروط الخطأ التقصيري.
أضف تعليق